De la Théologie apohatique comme antidote au nihilisme
عن اللاهوت التنزيهي باعتباره تِرياقا ضد العدمية
محاضرة ألقاها الفيلسوف هنري كوربان في طهران يوم 20- 10 - 1977م وذلك خلال مؤتمر نظمه المركز الإيراني لدراسة الحضارات تحت موضوع عنوانه " هل تأثير الفكر الغربي يسمح بإمكانية إقامة حوار واقعي بين الحضارات ؟ "
هذه المحاضرة نقلت هنا بعد موافقة "بيرغ الدولية" التي تفضلت مشكورة بنشر خلاصتها في عام 1979م.
1) أين و كيف و متى يوجد الحوار ؟
يلزمنا بادئ ذي بدء أن نوضح العلاقة بين الموضوع الذي أقترحه وبين موضوع مؤتمرنا الذي يطرح السؤال لمعرفة التأثير الكوني للفكر الغربي و إمكانية خلقه لحوار واقعي بين الحضارات، لذا فهذا الإيضاح المسبق يفترض وجهات نظر ثلاث: أين و كيف و متى يتم الحوار؟
أولا: السؤال الأول الذي يفرض نفسه هو: هل الحوار بين الحضارات قد تم قبل ذلك؟ في الواقع، يعد لفظ "حضارة" لفظا مجردا،فالحضارات في حد ذاتها (أي الكليات) لا تستطيع التحاور. وحدهم المعبرون عنها يمكنهم أن يكونوا الشركاء الفعليين لهذا الحوار. وبهذا المعني أفهمصفة "واقعية" المتعلقة بكلمة حوار في منطوق مؤتمرنا.
من هذا المنطلق علينا أن نعي تماما المشاريع الكبرى السابقة للترجمة التي تمت خلال القرون الماضية على حسب التسلسل الزمني. و سنركز على وجه الخصوص على كل من :
أ) الترجمات التي تمت من اللغة السنسكريتية إلى الصينية ( حين قام أمير من "أرساسيد" في القرن الثاني بترجمة النصوص الأساسية للبوذيةعن الأرض الطاهرة، أي "السوخافازاتي" )
ب) الترجمات من اليونانية إلى الفهلوية في نهاية الفترة الساسانية بإيران.
ج) في بداية الإسلام، الترجمات من العربية إلى اللاتينية مع تداخل النصوص الفلسفية باللغة العبرية واللغة العربية.
د) في القرن السادس الإصلاح الواسع للشاه الأكبر الذي شجع الترجمات من السنسكريتية إلى الفارسية.
من هذا المنطلق أيضا نستطيع أن نجد تفسيرا تفاؤليا لتزايد الترجمات في أيامنا هذه، ولكن إلى أي حد يكون من المشروع الدعوة إلى هذا التفاؤل؟ لنشدد بقوة على الأهمية الخاصة التي أولاها الغرب في القرن التاسع عشر للاكتشافات الأثرية ولإحياء المدن الميتة ولإظهار مجموع المخطوطات التي تكشف عن أسرار النظم الفلسفية والدينية. فلقد استسلم الضمير الغربي لإلزامية البحث التي تعد على تضاد تام مع عوائق الحوار،والتي تكشف عن اهتمامات أخرى غير تلك المادية التي تنسب سطحيا إلى الغرب. ولكن بأي مقدار تتم تلك التبادلية؟ هل أظهرنا في الشرق اهتماما مثيلا بالقيم العليا الروحية للغرب؟ أنا لا أجرؤ على الإجابة بالإيجاب. وهذا هو السبب في سيادة المناجاة نظرا لغياب حوار "واقعي".
صحيح أن المسؤولية مشتركة. لكن بما أن الحوار يتم بين "الأشخاص"، فلكي يكون ثمة حوار يلزم أن تكون الوضعية الاعتبارية للأشخاص المتحاورين ذات شيء مشترك. فالحوار يتم بينك "أنت" و"أنا". وهو ما يفرض أن نكون أنت وأنا متشبعين بمسؤولية المصير الفردي. فما دمنا قد طرحنا موضوع الفرد بهذا الشكل، فسنخطو خطوة كبرى نحو فهم الموضوع الذي أقترحه.
ثانيا: لكي يوجد حوار "واقعي" يتوقف كل شيء على حالة طرفي الحوار. والهموم الملمح إليها في موضوع ندوتنا هو التسليم باختفاء الحضارات التي تعتبر تقليدية تحت تأثير ما يطلق عليه العدمية. يتعلق الأمر جوهريا بالعدمية الميتافيزيقية الصادرة عن اللاأدرية الجذرية، التي ترفض"الاعتراف" بوجود حقيقة تسمو وتتخطى الآفاق التجريبية واليقينيات العقلانية. إذا هل يمكن أن يوجد حوار "واقعي" بين أطراف بعضهم استسلم للعدمية بينما يقاومها الآخرون بفاعلية؟
لقد كثرت في أيامنا هذه اللقاءات بين التقنيين والمؤتمرات التكنولوجية، مما يجعلنا نطرح للتوّ السؤال الآتي: هل تكفي التكنولوجيا لملءمفهوم الحضارة؟ هل يعني هذا المفهوم إيجابا أو سلبا قوة سرية غير مرئية يمكن أن نسميها قوة روحانية تحدد مضمون وغاية المفهوم وتسمو، من حيث هي كذلك، عن الفرضيات التي تطرحها التكنولوجيا؟ وإن لم يكن هذا المفهوم لا يعني ذلك فيمكن أن نكتفي أو نتواءم مع تساوي الأشخاص أو غيابهم تماما، أو أن نكتفي في أبسط الحالات بالآلات الحديثة ذات التطور الفائق. أما إذا كان المفهوم يعني شيئا آخر إذاً فإن تكوين الأشخاص المتحاورين هو الذي يكون موضع الشك، أي ما لا يمكن أن يجيب عنه، وما لا يمكن أن يستجيب له إلا الشخص الإنساني في فرديتهالروحانية غير القابلة للاستلاب. وفي غياب ذلك، و في غياب ما يشكل أولوية الحوار سنجد أنفسنا أمام العدم اللاأدري.
ثالثا: وهنا يدخل الموضوع الذي بلورته. في الحقيقة لست أول من لاحظ أن النظم الاجتماعية والسياسية في الغرب الحالي، التي تخطت حدود الكون، هي علْمنة النظم اللاهوتية السابقة. هنا يمكن أن نلاحظ ضمنيا أن المفهوم الكامل للغرب لا يمكن أن يتطابق ببساطة مع هذه العلمنة. وهو ما يعني كذلك أن نلاحظ بأن هذه الظاهرة ليست مخصوصة فقط بالغرب باعتبار أن العالم الشرقي هو أيضا اليوم ضحية ما نسميه "تغريبا". لذلك فإن التباين اليوم بين الشرق والغرب، أكثر من أي وقت مضى، لا يأخذ معناه إلا على المستوى الميتافيزيقي، ذلك الذي حدد موقعه الفلاسقة الإيرانيون منذ ابن سينا والسُّهروردي.
وعلى هذا المستوى، فإن ذلك التباين ليس عرقيا أو جغرافيا أو تاريخيا أو حقوقيا. إن التباين الأساس يتبدى بين عملية التقديس وعمليةالعلمنة. إننا نقصد هنا "بالتقديسية" الإعلان المسلم به بالشعور الحميم عن عالم القدْس الذي يتعالى على الظواهر المادية لهذا العالم. وحينئذعلينا أن نأخذ حيطتنا، فالعلمنة التي نتحدث عنها هي العلمنة التي تهدف إلى تدمير المستوى الميتافيزيقي. وعكسها ليس أبدا تقديس المؤسسات الاجتماعية والسياسية، لأن تقديس هذه المؤسسات قد يشمل بالضبط تدنيس المقدس (أي جعله ماديا)، بالمقابل، فإن علمنة هذه المؤسسات يمكن أن يؤدي، بسبب خلط قاتل، إلى التقديس المزيف لهذه المؤسسات. أتمنى أن يعي الزملاء الشرقيون الشباب تماما بهذا التباين. فعلى سبيل المثال كان ثمة الظاهرة المميزة للتاريخ الديني للغرب وهي ظاهرة الكنيسة. والفصل بين الكنيسة والدولة حيثما تمَّ يستهلِك بكل تأكيد انعدام تقديس الحياة العامة بل علمنتها. لكن بمجرد ما يصدر لاتقديس الحياة العامة عن نفي كل أفق ميتافيزيقي وكل "عالم ورائي"، فإن التقديس المزيفيسيطر على المؤسسات الإنسانية المعلمَنة. لذا سيحل مكان ظاهرة الكنيسة بكل بساطة مفهوم الدولة المستبدة.
و كل هذا لأن العلمنة والتقديس يعدان ظاهرتين وجدتا ولهما مكانهما ليس أوليا في عالم الأشكال الخارجية ولكن أولا في العالم الداخلي للنفوس الإنسانية. فصيغ وجود الإنسان الداخلي هي التي يخرجها ذلك الإنسان لكي يصوغ ظاهرة العالم وظواهر عالمه الذي فيه يحدد حريته أو استعباده. فالعدم يوجد عندما يفقد الإنسان وعيه بمسؤولية هذه العلاقة ويعلن بيأس أو بسخرية قاتلة أن الأبواب مغلقة وهو الذي أغلقها بنفسه.
إن الانتقال من اللاهوتي إلى السوسيولوجي يتم عندما يحل الاجتماعي مكان الإلهي، وذلك تلافيا لإمكانية وصف الفلسفة بالخادمةللاهوت، أو بالخادمة التابعة للسوسيولوجيا. وللأسف فإن السوسيولوجيا ليس لها أن تقدم للفلسفة إلا ما تخبئه لها الصيغة الثنائية للاهوت، أي لاهوت التنزيه apophatique أو اللاهوت السلبي، واللاهوت الإيجابي ( التشبيهي Kataphatique)، هذان المفهومان سنوضحما فيما سيأتي. فوفقا للرابطة التي تصل بين اللاهوت الأول والثاني، ووفقا لوجود أو غياب أحدهما، يتقرر مدى العدم في كلمة مفهوم العدمية. فالعدمية الثقافية ليست إلا مخرجا اجتماعيا أو ناقصا لهذه الجدلية، أقصد مخرجا يتم فيه هدم أولوية اللاهوت التنزيهي بحيث إن العقائد التي يعتبرها اللاهوت التشبيهي أو الإيجابي مطلقة تتأرجح كما لو كانت محرومة من أساسها ومبرراتها. والحال أن هذا المخرج يجر معه مصير الشخص، ومصير ما يفترضه الوجود الواقعي للشخص الإنساني، ومن ثم مصير الأشخاص، والأطراف الممكنين لحوار لا يكون غير واقعي. لهذا السبب أقترح موضوع "اللاهوت التنزيهي مضادا حيويا للعدمية".
وها نحن على ما أعتقد في لب الموضوع وفقا لما أراه. ولكي نبسط هذا العقدة يجب أولا أن نواجه بين مفهومي الفردية والعدمية. وسأقوم بذلك على هامش إحدى المقالات الحديثة لأحد زملائي الأجلاء من الفلاسفة الفرنسيين، الذي يندد فيه كفيلسوف مختص بالدراسات الهندية،بشخصانية الغرب باعتبارها سببا للعدمية.
وما أخشاه هو أن يكون سوء الفهم كليا؛ لأننا على النقيض من ذلك نرى نحن في اللاشخصانية وانهيار الفرد ونفيه واستلابه، سببا للعدمية ومنتهى لها. والقضية من الخطورة بحيث إنها تشكك في مفهوم أساس لأسرة الأديان الإبراهيمية الثلاثة. لذلك يجب أن نفحص النقاط التالية:
1) أي مفهوم للشخص ندعو إليه عندما نجعله سبباً للعدمية؟ بعبارة أخرى ما نقصده بالشخصانية والعدمية؟
2) السبب الأساس لاتهام الشخصانية يبدو لي كامنا في نسيان ما يتصوره التراث الإبراهيمي في مجمله ( وليس فقط في مفهومه الغربي ) لاهوتا سلبيا أو تنزيهيا. بعبارة أخرى، ما هو حال اللاهوت التنزيهي والشخصانية؟ لو واجهنا هذين المفهومين سنستطيع إذا أن نميز أين توجد العدمية حقيقةً.
3) من ثم، يمكننا أن نعارض بين مبدأ حقيقة واقعٍ مضاد والمفهوم العلمي المساند للعدمية. وهنا علينا أن نستمع لصوت فلاسفتنا الإيرانيين القدماء وعلى رأسهم صوت الملا صدرا الشيرازي ( المتوفى عام 1050هـ/ 1640م ).
الشخصانية والعدمية
إن المقال الذي نحيل إليه، العميق التفكير والحاث عليه، وإن كنا نختلف للأسف مع التشخيص الذي يقدمه مؤلفه، هو لزميلي الفيلسوف المقارن الجليل الأستاذ جورج فالان. وإذا كنت أبدو له غير متفق مع مقاصده الفكرية فمن السهل علينا هنا تبديد كل سوء فهم. يحمل المقال عنوان: "التراجيدي والغرب في ضوء اللاثنائية الآسيوية"[1] المفارقة توجد فيما يلي: بينما يبدو لنا نحن أن العدمية الميتافيزيقية والأخلاقيةمتلازمة مع تحلُّل الشخص، يبدو لزميلي أن مصدر العدمية على العكس كامن في مفهوم الشخص ذاته، وبالأخص منها مفهوم الفردية الروحانية.ينطلق تحقيق زميلنا الفيلسوف من الأنثروبولوجيا لكي يصل إلى مستوى اللاهوت رابطا بين فكرة الأنا الشخصي و فكرة الإله الشخصي، كي يدينهما معا باعتبارهما يشكلان صعودا للعدمية. وخطورة ذلك الطرح كما قلنا من قبل، تكمن في أنه يتهم أنثروبولوجيا ولاهوت الأديان الإبراهيمية الثلاث ومعها العالم الروحاني اليوناني والإيراني باعتبارهما كليهما قلعتين لشخصية الآلهة والناس. لقد تخطينا كثيرا التباين بين الشرق والغرب، غير أن مصير "الأشخاص" من حيث هم أطراف الحوار ما زال مطروحا وبشكل ملح. لذا فنحن نقترح التحليل الآتي:
أولا. الأنثروبولوجيا: إن اللازمة التي تشكل منطلق المقالة المذكورة والتي أًعلن عنها في العنوان نفسه هي أطروحة بُلورت في كتاب "عودة المأساوي" الذي أصدره جان ماري دومناك منذ عشر سنوات. وفيه نقرأ الأسطر التالية: " إنه لأمر دال أن المأساوي، هذه المقولة الأساسية للوجود الإنساني، تسم ثقافة أوروبا لا غيرها من الثقافات" [2]. ويسعى مؤلف المقالة إلى تبرير هذا التوكيد بالبرهنة على أنه حيثما تكون المسلمات الأساسية للثقافة الغربية ناقصة، فإن ظهور المأساوي "أمر لا يمكن تصوره بتاتا". لكن، في نظرنا، الأحرى بنا أن نقول إنه لا يمكننا أبدا أن نتحدث عن المأساوي باعتباره "مقولة أساسية للوجود الإنساني". والحال أننا نعلم أن فكرة المأساوي إذا كانت السمة الخاصة لفلسفتنا الغربية، فذلك لأنها جوهريا فلسفة تتطلّب الفردي. أثبت هنا المقاطع الأكثر كثافة والصادمة. يقول جورج فالان: "إن ما يبدو أنه يشكل الإيديولوجية الدائمة للإنسان الغربي، هو الاعتقاد في واقعية الفردي أو المماهاة بين الواقع والفردية، بالتعارض مع الإيديولوجية الأساسيةلآسيا التقليدية، كما تتبدى في مذاهب الفنداتا اللاثنائية، والطاوية أو بوذية المركبة الكبرى"[3].
ها نحن مدعوون إلى اعتبار أن الواقع في نظر إنسان الشرق يتماهى مع الكوني أو ما لا صورة له supraformel [المطلق]. لكن علينا إذن أن نتساءل: كيف يمكن للفكر الإنساني أن يقول قوله في ما لا صورة له إلا بمفردات سلبية؟ تُقترح علينا الصيغة الشهيرة : tat tvam asi، باعتبارها تعني، إضافة إلى ذلك، المطلق الذي لا شخص له suprapersonnel، وأنت باعتبارك "أنا" ego أنت أيضا كذلك، وهو ما لا يمس قضية معرفة كيف يمكن للأنا المسماة هنا أنا، أن تظل مع ذلك أنا، حين تتم مرادفتها بالمطلق الذي لا شخص له. بعبارة أخرى، كيف هي هذه "الأنا" التي لها القدرة على قول: أنا مطابق لهذا، للمطلق الفوق شخصي؟"، بما أنه يتم معارضة فكرة الإنسان الواقعي ب فكر الأنا ego؟ هل هو الإنسان الواقعي، أم هي الأنا الفلسفية الوهمية التي تصرح "أنا هو هذا"؟ هل يكفي القول "أنا هو هذا" كي تكف الأنا عن أن تكون وهمية؟
صحيح أن زميلنا يفسر هنا بأن السلبية négativité التي تفترضها الأنا بالمعنى الجاري والباطني للأنا الفلسفية ليس أصليا originire وإنمامشتقا، بمعنى أن تلك السلبية تجد أصلها في الإيمان بواقع تلك الأنا، وهو الإيمان الذي يشكل "غشاء" "للهوية الجوهرية للذات Moi والمطلق الفوق شخصي". فالأنا بنفسها مسؤولة. ونحن نقرأ بالنص: "الفرد بمعنى ما مسؤول عن عملية تشخُّصه individuation، ذلك أن له إمكانية دائمة في قلب وجوده لاستكشاف البعد "الكوني" أو "اللانهائي" للوجود الذي لم ينفصل عنه أبدا"[4]. بعبارة أخرى فإن الفرد متهم بالوجود، ومتهم بوجوده الخاص. إنه موقف مقلق صراحة وبشكل بالغ، وهو ما يجعلنا نتوقع اللحظة التي ستفرض فيها على الفرد "نفض التهمة" عنه، لكن لا بغرض استعادته "لبعده الكوني أو اللانهائي". إن التمزق الذي يعرفه وجود بكامله، والذي يبلغ أوجه في تمزق الموت، لا يمكن أن يعاش، كما يقال لنا، في حالته تلك إلا إذا طابقنا بين الإنسان الواقعي والأنا. وبعبارات بوذية، "يكون وجود الأنا مطابقا للمعاناة، ووجود الأنا مطابقا للفراغ". بيد أن غربيا لن يحتاج لأن يكون فيلسوفا أو عرفانيا ليتساءل: "وإذا ما كان الأمر على العكس من ذلك؟ وإذا ما كانت المعاناة تجد أصلها في بتر الفردية الروحية، وإذا ما كان ذلك البتر هو الذي يبرر لوحده اعتبارنا للأنا وهما؟ وإذا ما كانت القضية الكبرى هي ألا نستعيد الأنا في امتلائها الأصلي؟ بعبارة أخرى، فإن الجواب على مأساة بتر الشخص لن يكون بالقبول بالفراغ، وإنما بصراع أبناء النور ضد قوى الظلام، باختصار سيكون بالأخلاقيات الزارادشتية لإيران القديمة.
إننا ندرك منذ الآن، أن ما يوضع موضع شك هو ما سمي من قديم في الفلسفة "بمبدأ التشخُّص (الفردنة) individuation". أستشهد مرة أخرى بالنص: "إننا نعلم أن الأنطولوجيا والأنثربولوجيا السائدين لدى الإنسان الغربي يتمحوران حول التوكيد المطلق لواقعية الأنا (في مختلف أشكالها) ولواقعية الأشكال الفردية عموما. وهذا الاعتقاد يبدو لنا ملازما لبتر الوجود، لأنه يتخذ من "السلبية أو مبدأ التشخُّص المتماهي مع مبدأ الواقع أصلا وجوهرا له". إن هذا الموقف يبدو لنا مرة أخرى بالغ الخطورة. إنه يبدو لنا موسوما بخلط ندَّد به الميتافيزيقيون الإيرانيون التابعون لمدرسة ابن سينا [5]، أعني الخلط بين وحدة الوجود والوحدة التناقضية والوهمية للموجود (باللاتينية ens). فقد نددوا بقوة بهذا الخلط الذي سقط فيه بعض المتصوفة، والذي يلتقي بدقة مع الموقف الذي حدده جورج فالان باعتباره موقف الإنسان الشرقي. بالمقابل، يتفق الفلاسفة الإيرانيون هنا مع ميتافيزيقا الوجود التي جاء بها الأفلاطوني الجديد الكبير بروقليس: مبدأ العلاقة ما بين جزئية الجزيئات والجزيئات الموحدة للفرديات المتعددة التي تظهر في فعل الوجود بجعلها لكل واحد موجودا واحدا، ذلك أن الوجود لا يمكنه أن يكون موجودا إلا في تعدد الموجودات الفردية. وتوكيد واقعية الأشكال الفردية لا يشكل بأي حال بترا للوجود، بل هو بالعكس انكشافه وازدهاره الكامل. والخلط بين نظام الوجود ونظام الموجود هو خلط قاتل. فمبدأ التشخُّص هو موقف للموجود. وإذا لم نر فيه غير السلبية فإننا نضع أنفسنا على طريق الكارثة الميتافيزيقية.
علاوة على ذلك، لا نعتقد بأنه من الممكن القول ببساطة أن مبدأ التشخُّص هذا يهيمن على فكر الغرب بكامله منذ أرسطو حتى سارتر[6] ذلك أن هذا المبدأ قد تم تأويله بطريقتين متناقضتين أدتا إلى نتائج وخيمة. ولو طرحنا هذا السؤال بألفاظ شكلية مادية فسيكون السؤال هو: هل مبدأ التشخُّص هو المادة أم الشكل؟ إذا كان هو المادة فإن الفردية الروحانية والشكل، وفكرة وجودٍ ما لن تكون سوى أمر وهمي. وإذا كان هو الشكل، فإنها ستكون تلك الفردية الروحانية نفسها في طابعها الأبدي التام. ويمكن آنذاك أن تسمى "الفرافارتي" (بالفارسية: فروهار) في الأفيستا، و"نشما" في القبالة اليهودية، و"العين الثابتة" لدى ابن عربي، و"الطباع التام" لدى السهروردي وفي التقاليد الهرمسية والحكمة الإلهية الإسلامية، الخ.
وإذن، حين يكتب زميلنا بأن العدمية في نظره "تعود إلى إرساء مبدأ التشخُّص أو إلى التقديس الميتافيزيقي للأنا"، وأن "المصير المأساوي للغرب يتمثل في الاكتشاف التدريجي لنتائج هذا التقديس الذي يصادف البروميثوسية الأساسية للإنسان الغربي؛ وأن الإنسان الغربي إنسان مأساوي بالجوهر، لأن السلبية لديه أصلية وليست مشتقة"[7]، علينا أن نعترف أن ما يتبادر إلى ذهننا هو الموقف النقيض بشكل جذري. فالمأساوي ليس مخصوصا بالإنسان الغربي وحده، لأن المأساوي والمأساة [التراجيديا] هي الإنسان نفسه. ثمة المأساوي البروميثوسي، لكن ثمة أيضا مأساوي أوهورامزدي (غزْوة أهريمان)، وكل منهما من طبيعة مباينة وبعلامات مختلفة كل الاختلاف[8]. المأساوي لا يتمثل في تشخُّص يزعم أنه أولي وأنه قانون كل موجود، سواء كان من العالم الروحاني أم العالم الدنيوي، وإنما يتمثل في السقطة أو الكارثة التي جرفت في نتائجها الدرامية الفرديات الروحانية التي وجدت فيما قبل هذا العالم. ذلك ما تصوِّره نظريات نشوء الكون الدرامية المشتركة بين كل أشكال العرفان الإبراهيمي كما العرفان الإيراني (الزارادشتي، المانوي) و"الألغاز الأفلاطونية".
التشخُّص ليست إذن اشتقاقا ثانويا، وإنما هو في الحقيقة أولي، جاء مع التكوين الوجودي للوجود. ليس مبدأ التشخُّص هو المأساوي. المأساوي هو ما يبتره، ويشله ويخونه ويشوهه؛ إلى حد أنه إذا كان مبدأ التشخُّص هو الذي يميز الإنسان الغربي عن الإنسان الآسيوي التقليدي، فإننا نعترف أننا لا نفهم كيف يمكن لزميلنا جورج فالان أن يدين الشرق الأقصى الحالي باعتباره يدخل في الدائرة الثقافية للحضارة الغربية التي غدت عالمية. فحسب ما هو في علمنا، فإن الدائرة الثقافية الغربية لا تتميز بالمقابل وبالخصوص بالاعتراف بالأنا الفردية[9]. وإلا فإن ذلك الاعتراف ليس السمة المميزة للإنسان الغربي، ولا للثقافة الغربية التي غدا تأثيرها عميقا. وإذا كان الأثر العالمي للغرب مصحوبا بانهيار حقوق الفردي، فكيف ننعت الغرب "بتقديس الفردي"؟ فإما أن الأمر يتعلق بشيء آخر أكبر من التأثير الغربي؛ وإما أن الفكر الغربي ليس هو ما يقولونه لنا. إننا نجد أنفسنا هنا في صلب موضوع ندوتنا، إذ كيف نتصور حوارا من غير اتفاق على المقدمات الأساسية؟ لن يكون ثمة غير المواجهة وحوار الصم. وأنا أحاول هنا أن أسير بنا نحو شروط حوار بين أطراف تكون أطرافا للحوار لأنها أطراف شريكة في المصير نفسه.
إن مبدأ التشخُّص من الجوهرية بحيث نفترض أن هذا المبدأ يشكل المأساوي نفسه، وبهذا فإن المأساوي لا يسم الغرب فقط، وإنما كل العوالم الروحانية التي سعت مسالك العرفان ذات العيون النارية أن تستكْنه سره الذي سبق "نزول" آدم إلى هذا العالم. وفي الحقيقة فإن مدى مبدأ التشخُّص من السعة بحيث إن زميلنا الفيلسوف، وهو يتابع انطلاقته التي جعلته يدين مماهاة الواقعي مع الفردي باعتبارها في أصل العدمية، سوف يمر من الأنثربولوجيا إلى اللاهوت كي يدين أيضا المفهوم اليهودي المسيحي للإله الشخصي (الرب) باعتباره مسؤولا عن العدمية اللاهوتية الداعية إلى "موت الإله". لكن هنا أيضا، وكما أن إدانة مبدأ التشخُّص بدا لنا سابقا يتناسى ما وصفته نظريات نشوء الكون القصصية للعرفان، يتم التناسي العمد لما يسمى بالتنزيه في مجموع العرفان والحكمة الإلهية الإبراهيمية. والحال أن نسيانه أمر في غاية الخطورة.
ثانيا. اللاهوت: هنا بالذات نكتشف الفرضية الضمنية التي تمكِّن من توكيد الرابطة الجوهرية بين فكرة الإله الشخصي وسلبية الأنا باعتبارها أصلية، وباعتبارها متأصلة في فكرة الأنا نفسها التي تبلور "الشكل الأسمى لنشاط النفي"، ومن ثم المصدر الأول للعدمية الأولية. أما نحن، فعلى العكس من ذلك، نقول بأن هذه السلبية ليست أبدا أصلية originaire ، وليست أبدا متأصلة في الأنا، وأن المأساوي يلزم ربطه بسلبية حادثةهي الشرط الحاضر للأنا، وهو نفسه شرط وجوده في هذا العالم ونتيجة لكارثة معينة. ذلك ما عبرت عنه كل نظريان نشوء الإنسان ونشوء النفس القصصية للعرفان. ليست الأنا هي المأساة، وإنما بترها الذي تم تعويضه بتضخم مرضي يتمثل في "نزولها إلى هذا العالم. ذلك هو ما يعبر عنه حس الغربة (الحاد في الحكمة الإلهية اليهودية وفي الحكمة الإلهية الإسلامية": "فالمغالاة" توجد بين ما هي عليه النفس والأنا حاضرا، وما هي مدعوة لأن تكونه بفضل أصل سابق على الوجود نفسه. إن الملاحم الصوفية، تترجم أفضل من الأنساق الفلسفية، هذا الاحتجاج وهذه المغالاة. (فليس ثمة من مقياس مشترك بين حالته الراهنة وما هي مطالبة بأن تكونه). إنها المأساة نفسها التي حكتها الملاحم الصوفية والحكمة الإلهية. بيد أن هذه المغامرة، ومأساة النفس هذه، التي يشكل عالم النفس مكانها، لا يمكن تصورها لو لم تكن في الآن نفسه مغامرة إلهية، أو بالأحرى داخل إلهية تتمُّ في الألوهة نفسها التي تعتبر مجال حدوثها. ذلك بالذات هو ما يستهدفه اللاهوت التنزيهي، والسبب الذي من أجله لا يزال الإله الشخصي ينظر إلينا، أي لا يزال يتعلق بنا إلى الأبد.
هكذا يمكن القول بأن الشخص الإلهي، والشكل الشخصي للإله الشخصي ليس نفسه المطلق الأصلي: إنه النتيجة الأبدية لسيرورة أبدية في الألوهة. وبما أنه نتاج أبدي لسيرورة أبدية، فهو في الآن نفسه مشتق وأصل. وإذا ما نحن تأملنا هذا السر فسندرك أن الشخصانية ليست أبدا مصدرا للعدمية. إنها بالعكس فقدان تلك الشخصانية، وإخفاق وإجهاض الشخص الذي يقوم بإعدام تكوينه الوجودي. من ثم فإن ما يتجاوز الشخص لا يمكن أن يتصوره الفكر الإنساني باعتباره من الناحية الأنطولوجية متجاوز للشكل الشخصي للألوهة وللأنا الإنسانية.
من ثم، حين يتعلق الأمر بمصدر الشر، سيبدو كافيا اختزال المشكلة في بديل: فإما أسطورة التراجيديا (المأساة) الإغريقية التي تنحو نحو تبرئة ذمة الإنسان، أو التوحيد اليهودي المسيحي الذي يسعى إلى تبرئة الإله، بالمعنى الذي تكون فيه "إرادة الإنسان الحر وحدها في أصل الشر"[10]. ربما كانت الأمور تطرح نفسها هكذا في ديانة توحيدية ظاهرية exotérique. لكن اللاهوت التنزيهي، الذي تطور في شكل الحكمة الإلهية، يتجاوز ويزحزح المشكل كما يُطرح في صيغته الظاهرية. ولسوء الحظ فإن الأمور تسير كما لو أن الإنسان الآسيوي التقليدي لا يتصور أمامه وضعية غير وضعية اللاهوت التشبيهي التوكيدي الظاهري، الذي إذا ما حُرم من وجود اللاهوت التنزيهي أو السلبي، سيكون بذلك عاجزا عن إدراك الفكرة الأساس التي تجعل من الإله الشخصي ومن عبده شركاء وأطرافا في المعركة نفسها. فالأبطال الذين يواجهون معا المأساة نفسها، والتي لا يشكل أصلها ورهانها سوى شخصيتهما معا، ليسوا سلبية يلزم حلها، وإنما بالعكس إيجابية يلزم امتلاكها.
يبدو إذن أن أطروحة شعور الأنا بالذنب، الذي أشرنا إليه سابقا، والذي يطرح "أن الأنا متهمة بالوجود وأن التشخُّص يبدو عبارة عن "إثم" بالنظر إلى أننا نحال على البعد الفوق شخصي للذات الذي لا تتميز عنه الأنا في النهاية إلا في الصيغة الوهمية"[11]، هذه الأطروحة لا يمكن من جهتنا إلا أن نعارضها بنقيض أطروحة مزدوج: الشعور بالإثم ليس في وجود الأنا؛ إنه في الانحطاط الذي يبترها ويشلها، أي في ما هو في الواقع ضياع الأنا، وهو ضياع يتبدى في الغالب في التضخم الفارغ البشع. والوهم ليس يكمن في التمايز "الوهمي" للأنا تجاه المطلق المتجاوز للشخصية، وإنما في إعدامها بجعلها تعادل ذلك المطلق. أما الأطروحة التي تقول بأن "المأساوي ليس ممكنا إلا للإنسان الذي يظل وفيا "للاعتدال" الإغريقي" الشهير، أي للإنسان المنغلق في تناهيه، والذي يتماهى مع الحدود المكونة لإنسانيته، أي لأناه"[12]، فإننا نعارضها بالأطروحة القائلة بأنه على العكس من ذلك تماما، فإن تجاوز ذلك الحد الذي يتبدى في الملاحم العرفانية، باعتباره حرر الكارثة السابقة، هو الذي حدد وجود هذا العالم، وهي الكارثة التي نجمت عنها حدود أنا مبتورة ومشلولة في وجودها في هذا العالم وبه. وتلك الحدود هي حدود أسْرها واغترابها، لا الحدود التي تحدد أبديا وجودها نفسه، ووحدة جوهرها الفردي. فالسقطة والتحرير هما الفصلان الكبيران لهذه المأساة. بيد أن التحريري لا يعني الهدم. فتحرير الوجود الفردي، يعني استعادة فرديته وجوهره الفردي الكامل والحقيقي. إنه استعادة الحقيقة، لا التنديد بها باعتبارها وهمية.
ها نحن نجد أنفسنا ناحين وجهةً مختلفة بالغ الاختلاف عن تلك التي تتصور الشخص والشخصانية من وجهة نظر "اللاثنائية الآسيوية"، وتدينهما في الآن نفسه باعتبارهما يؤديان إلى الشخصانية. إننا نقول بالمقابل إن على مفهوم الشخص "أن "يعارض" العدمية، حتى يكون أطراف الحوار أشخاصا واقعيين لا ظلالا لذات فوق شخصية، لا تكون فرديتها سوى وهم.
والنزر القليل الذي قلنا يضعنا على طريق تعميق اللاهوت التنزيهي، رافضين من الآن الأطروحة التي تجعل من ديانات التوحيد الإبراهيمية، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، شكلا آخر من المأساوي المتأصل في الثقافة الغربية، باعتبارها "تقدس" الأنا والفردي. إننا قمنا بقلب الأطروحات النازعة إلى العدمية، التي تشكل امتدادا لها أطروحة أخرى تقول بأن عمق هذه المأساة يتمثل في سيادة مطلق شخصي محلَّ المطلق الفوق شخصي. فمن فضائل اللاهوت التنزيهي أنه يحمينا من كل خلط بين المطلق والإله الشخصي، وبين لاتحدد هذا الأخير وضرورته. من ثم، هناك حيث ينصِّب زميلنا نفسه لسان حال "اللاثنائية الأسيوية"، ويندد بالإله الحي للتوحيد اليهودي المسيحي والإسلامي باعتباره المرحلة الأولى من موت الإله [13]، يلزم علينا مرة أخرى قلب معنى العدمية التامة nihilitude ، ووضعها في الوضع الصحيح. هذا "الموت الأول للإله"، سيكون حسب قول صاحبنا المعادلة بين المطلق والإله الشخصي، وذلك انطلاقا من الخلط بينهما. ونحن قد نتفق بأن ذلك قد يكون أثرا للاهوت الإيجابي والدوغمائي للكنيسة الظاهرية، المحرومة أو التي تحرم نفسها من الحفاظ على اللاهوت التنزيهي. ربما كان زميلنا جورج فالان يعني هذا الجانب من اللاهوت "الرسمي". وفي هذه الحالة سنكون متفقين معه. بالمقابل ما القول في اللاهوت الحكمي الصوفي الذي يقوم على اللاهوت التنزيهي، مميزا بذلك بين المطلق والإله الشخصي؟ وفي الحقيقة، فاللاهوت المحروم من الحكمة الإلهية (الثيوصوفيا) هو الذي يتناقش في أمر "إله غائب" "باعتباره موضوعا لضرب من الحنين العاجز للوعي الشقي" كما يعبر عن ذلك جيدا زميلنا الفيلسوف[14]، بالإحالة إلى باسكال وكيركيغارد وكارل بارث. لكن، كنا نود منه أن يتصور، وهو ما سيكون قد قام به ضرورة ولو بطريقة خفية، ما نتصوره نحن هنا، وهو ما كان سيبيح له العودة إلى جان سكوت إريجين، وجاكوب بوهم وابن عربي وعيسى لويرا، إلخ.
المطلق في الواقع ليس ذلك الجانب الأولي والأول الذي اعتدنا على نعته بهذا الاسم. إنه اسم مفعول يتطلب عقلا فاعلا nomen gentis، أي الغافر الذي يغفر له ويجعل منه مغفورا له. إذا كان الغافر يبرئ المطلق من كل تحديد، فما يبقى هو تبرئة المطلق من هذا التحديد نفسه. وهذه الملاحظة ستمكننا من تفادي أي سوء تفاهم. فعلى العكس من الأطروحة القائلة بأن الإله الشخصي "لديانات الكتاب" للتجمعات الإبراهيمية الثلاثة تشكل الميتة الأولى للإله، علينا معارضتها بأن تدبير مكيدة "موت الإله" هذا لا يتمثل في محو الإله الشخصي أمام المطلق الفوق شخصي، وإنما في فهم التوالد الذاتي للإله الشخصي وهو يتحدَّر من المطلق، ويبرئ نفسه [ويطلق نفسه] من لاتحدد هذا المطلق، وهنا لا يتعلق الأمر بالموت وإنما بالولادة الأبدية للإله. إنه فعلا قلب للتحليل الفينومينولوجي. يعتبر جورج فالان أن "الحداثة" ستكون هي "الموت الثاني للإله"، أو على الأقل "الحدث الناجم عن الموت الثاني للإله". وستتمثل في كون الأنا الإنساني، حين سيفقد للأبد سلبيته négativité العميقة، سيدخل "في مسلسل نشيط للشمولية"، وهي شمولية ستفضي إلى "هيمنة مبدأ التشخُّص". وحينها، يقول صاحبنا: "يصبح التاريخ إلهيا، والإنسان جماعيا".
إننا متأكدون من أن صديقنا جورج فالان لن يحفظ لنا ضغينة إذا ما نحن اعترفنا أننا نجد صعوبة في تتبع التحليل الذي يقترحه علينا إلى هذا الحد. ففعلا يبدو لنا أنه لكي يغدو الإنسان جماعيا، يلزم أن تتحطم في جميع المستويات أسوار الوحدة الجوهرية للفردي. فحين يتم التنديد بالأنا باعتبارها وهما، آنذاك لا نعرف جيدا كيف يمكن أن تتم عملية الجمْعنة collectivation، حتى ولو تـمَّ تحديد هذا الوهم بالعلاقة مع ذات فوق شخصية. فلكي يتم إضفاء الطابع الألوهي على التاريخ، ينبغي على الفاعلين الذين يصنعون ذاك التاريخ، وعلى أحداث ذلك التاريخ أن تُدرك في بعد واحد، يمر بالعدمية التي ترفض البعد المتعالي للشخص، أي كل شخص، لأن تلك العدمية تدرِك في ذلك البعد تجلي مبدأ واقع مضاد.
وإذن، كيف يحمي اللاهوت التنزيهي الشخص ضد العدمية، ويشكل حماية للشخص الإلهي وللشخص الإنساني؟ وبتلازم مع ذلك، كيف يجعل من الشخص المحمي، حماية ضد العدمية؟ ما هو الاختلاف بين تجلي الشخص المولود أبديا، والتوكيد العقَدي للشخص الإلهي، أي التوكيد الذي لم يخضع لاختبار التزيه؟
3. اللاهوت التنزيهي والشخصانية
حين نقول باللاهوت التوكيدي أو التشبيهي، فإننا نعني لاهوتا يناقش مفهوم الإله ويؤكد كل صفاته الجوهرية، من فاعلية وكمال، الملائمة لمفهوم الألوهة. وكل صفة إلهية تتم مساماتها إلى الحد الأقصى. ذلك ما يسمى طريقة الـمُساماة via eminentiae. بيد أن هذه الطريقة لا تقوم سوى بمساماة الصفات الخلْقية لتضفيها على الخالق. ويكون التوحيد بذلك معرَّضا للانصياع للصنمية التي يرفضها. أما اللاهوت السلبي أو التنزيهي، فلكي يتفادى جذريا خطر تشبيه الخالق بالمخلوق هذا، ينكر أي صفة للخالق ولا يعبر عنه إلا بشكل سالب، وتلك هي طريقة التنزيه la via negationis. وهذه الطريقة هي التي اختارها بامتياز الإسلام الشيعي، سواء من قِبل الإسماعيليين [15] أو الشيعة الإمامية. وأنا أفكر هنا في الخطبة التي ألقاها في ميرف الإمام الثامن علي رضا، والتي شرحها وعلق عليها بشكل رائع القاضي سعيد القمي، وأفكر في مدرسة رجب علي التبريزي، والمدرسة الشيخية للشيخ أحمد الأحسائي[16]، إلخ. وفي التقليد الغربي، يبدو لي جاكوب بوهم الأكثر تمثيلية لهذا الاتجاه. وسأحيل بالأساس إليه لتبسيط تفسير فحوى ما أطرحه.
إن كل مذهب ميتافيزيقي يسعى إلى التفسير الشامل للكون، يجد نفسه أمام ضرورة إخراج شيء ما من العدم، أو بالأحرى إخراج كل شيء من العدم[17]، بما أن المبدأ الأصل الذي صدر عنه العالم والذي يقدم تفسيرا له، لا يجب أن يكون شيئا مما يحتويه هذا العالم، وبالموازاة مع ذلك، يلزم أن يحوز هذا المبدأ الأصل على كل ما يمكن من تفسير الوجود وجوهر العالم وما يتضمنه في الآن نفسه. فلا يمكن أن يكون هو نفسه الوجود ولا جزءا من الوجود، لأن ما يتطلب التفسير هو ذاك الوجود. وبهذه الصفة فهو نفي للوجود؛ وبالعلاقة مع أشياء العالم ومع الفكر، فهو اللامتحدد مطلقا؛ وهذا المطلق عدم. لكن من جهة أخرى، عليه أن يكون ذا علاقة مع الأشياء الصادرة عنه؛ عليه أن يملك شبها مع الأشياء التي هو مصدر لها. من اللازم إذن، كما حلل ذلك المرحوم ألكساندر كويري، أن يكون ذلك المبدأ الأصل في الآن نفسه "كل شيء" و"لا شيء". انطلاقا من ذلك تكوَّن اللاهوتان: السلبي (التنزيهي)، والتوكيدي (التشبيهي).
ثمة إذن في الأصل عدم مزدوج ومن ثم شكل مزدوج للعدمية، أحدهما إيجابي إلى حد ما، والثاني سلبية خالصة. ثمة عدم منه يُخلق كل شيء. إنه عدم المطلق الإلهي أعلى من الوجود والفكر. وثمة عدم لا يصدر عنه أي شيء بحيث ينحو كل شيء إلى السقوط والغوص فيه، أي عدم أدنى من الوجود والفكر. ونحن نتخوف من أن لا ننتبه للاختلاف بين العدمين حين نتحدث عن العدمية.
ينحو التقليد الأفلاطوني الجديد، سواء لدى الإغريق أم لدى الفروع الدينية الإبراهيمية الثلاثة، إلى منح الأولوية للطريقة التنزيهية، وإلحاق الطريقة التوكيدية التشبيهية بها، لأن الوجود نفسه تابع للمطلق و ملحق به. وقد أشرنا إلى ذلك من لحظة. ومن دون هذه الأولوية للتنزيهي (لذلك العدم الذي يصدر عنه كل شيء)، فإننا لا نقوم سوى بأن نضفي على الألوهة ركاما من الصفات الخلْقية (وإذن عدما لا يصدر عنه أي شيء). وهكذا فالتوحيد يهلَك في انتصاره، ويتحول إلى صنمية هو أصلا يسعى بلا هوادة إلى تلافيها. ذلك كان مصير اللاهوت التوكيدي بجيمع أصنافه، حين انعزل عن حصن اللاهوت التنزيهي؛ ومصيره هو الذي بدا لنا الهدف المشروع لانتقادات جورج فالان. بيد أن اللاهوت السلبي يؤسس هنا مطلقا لا يمكن أبدا أن نزج فيه بكل شيء (وتلك هي العدمية)، وإنما بالعكس من ذلك يلزم إخراج كل شيء منه لأنه يحافظ على وجود كل ما أوجده. باختصار فإن التوحيد الظاهري يدرك هذه التشكيلة الأحدية للوجود، كما لو أنها وحدة الموجود. وقد أشرنا سابقا إلى هذا الخلط القاتل [بين الوجود والموجود]. لكن علاقة الوجود بالموجود، والمطلق اللامتحدد بالإله الشخصي لا تسير في منحى عدميةٍ يلزم حلها في المطلق، وفي تعددية منالموجودات يلزم الخلط بينها في وحدة الوجود، وإنما في منحى الإيجابية التي يشكل المطلق مبدأها ومصدرها[18]. بهذا المعنى فهمت الحكمة الصوفية، وبامتياز تصوف ابن عربي، الحديث الشهير: "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت العالم كي أعرف". فالعدمية التي تحط من شأن القيمة الإيجابية للإله الشخصي تعني منع الكنز المخفي (المطلق اللامتحدد) من الظهور والتحدد، ومنع الوجود من أن يكون موجودا في تعددية الموجودات.
لقد استشهدت بابن عربي الذي تتمحور حكمته الإلهية الصوفية حول هذا التمييز بين المطلق اللامتحدد واللامعروف، والرب، أي الإله الشخصي، باعتباره وحده الذي يمكن للإنسان أن يتحدث عنه لأنه طرفه المتصل به. والأمر نفسه في الحكمة الإلهية الإسماعيلية، التي تعتبر أن اسم الله يعود في الحقيقة للعقل الأول. ونحن نفكر هنا في ميتراتون والملاك الكروبي على العرش في العرفان اليهودي، كما أيضا في كل ضروب التصوف البروتستانية الكبرى، لدى سيباستيان فرانك، وفالونتان فيغل[19]، إلخ، لأنهم كلهم يعتبرون أن الألوهة تظهر باعتبارها قوة وجبروتا وإرادة وفعلا، إلخ، فقط بالعلاقة معنا نحن الخليقة.
إن اللامتحدد بشكل مطلق لا يصبح الإله المنكشف، أي الرب المتحدد، الذي تتطلبه الطريقة الإيجابية إلا بالعلاقة مع المخلوق الذي يكون ذلك الإله المنكشف خالقَه. يلزم إذن على المطلق أن يخرج من مطلقيته، وأن يخلق خليقة شخصية يكون هو شخصيا ربها، بحيث إن الإله الشخصي لا يكون أبدا تلك السلبية الأصلية التي سمعنا من يندد بها فيما سبق باعتبارها "الموت الأول للإله". إنها بالعكس الولادة الإلهية التي تحدِث في هذا الانتقال من المطلق إلى الشخص. وإذا ما نحن تساءلنا لماذا اختير هذا التلازم بين الخالق والكائن المخلوق، فإن أفضل جواب عنها يوجد في المؤلفات النموذجية لجاكوب بوهم. فلأن أعماله الهائلة تحتوي سر مسعاه، فهي الجواب الشخصي عن ذلك السؤال، ولا يمكن أن يوجد جواب إلا إذا كان شخصيا.
إن لاهوت بوهم بكامله "تحليل لشروط إمكان الشخص المطلق"، أي الذي تمت تبرئته من لاتحدد المطلق الأصلي، ومن الحجُب واللامعرفة. (وقد قلنا فيما سبق: بما أن المطلق مبرأ من كل تحديد، يلزم تبرئته من هذا اللاتحدد). وقد تمثلت مزية ألكساندر كويري في كونه أحد القلائل الذين أمسكوا بهذا الجانب الذي يميز بوهم عن العديد ممن سبقوه، والذين يعفينا من شراكهم، وهو جانب مهم، لأن حالته النموذجية تساعدنا على إدراك ما يسائله الموضوع الذي اقترحت، ومن خلال ذلك الموضوع، شروط حوار ممكن.
"إن ما يعتقده بوهم قبل كل عقيدة، وما يبحث عنه، وما تعتبر كل عقيدة منذورة لتبريره، هو أن الإله وجود شخصي، وأنه شخص، وشخص حي، واع بذاته، وشخص فاعل، وشخص كامل"[20] . لنلاحظ الكلمات المستعملة: "ما يبحث عنه". فالإله الشخصي ليس معطى بشكل بدئي. ففي منتهى البحث (مثل بحث الغرال Graal) يتم اللقاء به. فليس ثمة إذن أي خلط بين المطلق والإله الشخصي، وهو الخلط الذي كان يمكن للشخصانية الغربية أن تسقط فيه ويتم التنديد به باعتباره مصدرا للعدمية المقترفة لإثم "موت الإله". وهذا البحث مُباين لعدميتين متماثلتين: عدمية لاهوت إيجابي (تشبيهي)، يجعل منذ البداية من عقيدته مطلقا لا حاجة للبحث في ما وراءها، وعدمية لاهوت سلبي (تنزيهي) لا يتوق سوى إلى لاتحدد المطلق، والذي يتناسى أن الكنز المخفي بحاجة لأن يعرف. ومن هذا الطرف إلى ذاك نحن أمام لاهوت من غير تجلٍّ.
انطلاقا من ذلك يمكننا أن نميز بين موقفين دائمين من الماضي حتى يومنا هذا، تم تنميطهما في المذهب الصوفي للمعلم إيكارت (القرن14)، وفي الحكمة الإلهية الصوفية لجاكوب بوهم (1575-1624)[21]. وتأمل هذين الحالتين النموذجيتين، يعني أننا سنبدأ في تفكيك أشراك العدمية.
صحيح أنه لدى الواحد منهما كما لدى الآخر، ثمة إحساس عميق بالألوهة الصوفية باعتبارها مطلقا لامتحددا، ثابتا وقارا في أبديته. غير أن المعلمين، يختلفان انطلاقا من ذلك. فلدى إيكارت تتسامى الألوهة Deitas عن الإله الشخصي، وهذا الأخير هو الذي يلزم تجاوزه، لأنه ملازم للنفس الإنسانية للعالم. فالإله الشخصي ليس إذن سوى مرحلة على الطريق الصوفي، لأن هذا الإله الشخصي مصاب بالتحديد والسلبية، وباللاوجود والتغير. "إنه يتغير ويتراجع عن تغيره" [22]. فـ"النفس الإيكارتية" تسعى إذن إلى التحرر منه للخلاص من حدود الوجود ومن عدم التناهي، ومن كل ما يمكن أن يجعلها ثابتة فيه. وهي تروم إذن الإفلات من ذاتها كي تغوص في هاوية الألوهة. إنه مستوى سام لا يمكنها جوهريا وأبدا أن تبلغ قعره. أما موقف بوهم وتصوره فهو مخالف لذلك تمام الاختلاف. فهو يبحث عن التحرر في توكيد الذات، وفي تحقيق الأنا الحق لفكرته الأبدية (وهو ما يشير له مفهوم العين الثابتة لدى ابن عربي وكل من يستلهمونه في الحكمة الإلهية الإسلامية).
كل شيء يصبح إذن مقلوبا: ليس الإله الشخصي هو الذي يكون مرحلة نحو المطلق اللامتحدد. بل إن هذا المطلق هو الذي يغدو مرحلة نحو التناسل والولادة الأبدية للإله الشخصي. ويقبل جاكوب بوهم أيضا بمبدأ "إنه يتغير ويتراجع عن تغيره" لدى المعلم إيكارت، غير أن ذلك لا يعني له العدم المعدِم، الذي يعدم الإله الشخصي؛ بل بالعكس يعني ذلك عدم المطلق المتمايز في نزوعه نحو الانكشاف والتحدُّد (الكنز المخفي) في حاضر أبدي واحد. ثمة إذن تاريخ إلهي داخلي، لا تاريخ بالمعنى العادي لهذه لكلمة، وإنما تاريخ لازمني، منتهٍ أبديا وبادئ أبديا، وإذن تاريخ تزامني وأبدي متكامل، في جميع أشكاله، وفي كل مراحل توالده الذاتي باعتباره إلها شخصيا. فهذا الأخير "يتضمن في ذاته كل اختلاف (...). إنه يوجد في الحركة والحركة توجد فيه". والتحديد الذي يتضمنه الشخص ليس هنا "أصليا"؛ فهو لا يخضع للعدمية التامة، وإنما هو انتصار على اللاتحدد الأصلي وعلى العدم بالعدم.
وما يلزمنا استثماره هو هذا. فحين يصف بوهم الشروط التي تجعل الشخص المطلق ممكنا، باعتبارها انتصارا وسيطرة على العدم الأول (وهي الشروط التي تشكل كامل بنية التنظيم الإلهي) يصف "الطريق التي مر بها الإله ويمر أبديا كي يتمكن من التناسل ويتشكل بذاته، والمراحل المتوالية أبديا لأنها أبديا متزامنة للحياة الإلهية، أعني مراحل تبلوره الداخلي"[23]. وإذن فإن هذا التاريخ الأبدي الإلهي الداخلي للتناسل الأبدي للإله الشخصي هو النموذج الأصل الذي يُنمْذج النفس الإنسانية بدورها كي تصل درجة الشخص. فالشكل الشخصي للوجود هو "الأكثر سموا، لأنها تحقق ظهور الذات" [24]. هذه العلاقات نفسها هي ما يعبر عنه معجم الفلاسفة الإيرانيين باصطلاحات من قبيل الظهور، والتجلي الإلهي، والمظهر، والتشخُّص. وهو ما يجعلنا نعلن عن برنامج فلسفة مقارنة بكامله حين نطرح هذه الاصطلاحات.
من ثم أيضا نحن نتوفر على الاستراتيجية الضرورية لمواجهة العدمية الشاملة التي تظهر اليوم في الصيغة المعلْمنة للاأدرية أو الجمعانية الكليانية. الشخصانية ليست مخصوصة فقط بالعرب، ولا فقط بالعالم الإغريقي، ولكن أيضا بالعالم الإيراني، وبكامل العالم الروحاني للديانات السماوية. إنه السور الواقي من كل القوى السلبية والعادمة. والبحث عن أصول وأسباب انهيار وتقلص هذه الشخصانية سيقودنا هنا بعيدا.
باختصار، لقد نصصتُ على جاكوب بوهم باعتباره الحالة النموذجية لأولئك الذين يعتبرون أن الهدف الأسمى لمسعى الإنسان في هذه الدنيا ليس الوجود اللامتحدد كليا (حتى لو قدم هذا الوجود اللامتحدد كليا باعتباره مثال آسيا لتقليدية). على العكس تماما من ذلك، الوجود المحدد كلية هو هدف المسعى. وفيما عدا ذلك، "ليس ثمة من شخص". والحوار لن يتم سوى بين "أشباح". ذلك هو المعنى الذي أمنحه للموضوع الذي اقترحته: اللاهوت التنزيهي باعتباره مضادا حيويا للعدمية، لأن هذا اللاهوت السلبي يؤصل الولادة الأبدية للشخص. فليس إذن بالانحلال والحلول في الألوهة، أو المجموعة البشرية التي هي الصيغة المعلمنة والوهمية له، والإنسان ليس بالتخلي عما يحدده كشخص ويضعه في الوجود، ولكن على العكس من ذلك بتحقيق ما له من شخصي وعميق، هو يقوم بوظيفته الجوهرية التي هي وظيفة التجلي، أعني أن يكون تعبيرا عن الإله، وحملا له.
والتباين الذي يضعنا أمام الاختيار يمكن التعبير عنه بتعبيرين نَدين بهما لعبقرية فرانتز فون بادر، المتأول الكبير لبوهم: "إن بوهم يعارض أطروحة: كل تحديد هو نفي (وهي الأطروحة التي ترى في الشخصانية مصدرا للعدمية)، بشكل ضمني بالاعتقاد في أن كل تحديد توكيد"[25]. وفي التباين بين هذين الموقفين الأطروحتين يستعاد كل ما نسعى إلى توضيحه هنا. وإذا ما نحن أخذنا على عاتقنا الماضي والمستقبل يمكننا أن نواجه السؤال التالي: أين هي العدمية؟
4. أين هي العدمية؟
يمكننا الآن الإجابة على هذا السؤال بأن العدمية ليست في مبدأ التشخُّص الذي تم التنديد به من حيث هو كذلك. فهذا المبدأ على العكس من ذلك هو السور الواقي ضد العدمية، بشرط أن يستهدف الأنا الكاملة، لا الأنا التي تسميها عاداتنا السيئة أنا عادية. بعبارة أخرى: تتبدى لنا العدمية في استلاب وتشويه مبدأ التشخُّص؛ وذلك لأن كل تحديد، وهو بعيد عن أن يكون سلبية، هو إيجابي؛ ولأن الصيغة الشخصية للوجود هي تحديده الأسمى وظهوره وانكشافه الأسمى. لهذا فإن كان ما يسعى لهدم هذه الصيغة الشخصية يشكل إما خطرا للعدمية أو عرَضا من أعراضها. وهذا الخطر المحدق يمكنها أن يتحجب وراء أشكال مختلفة وإن كانت متطابقة في العمق. وأنا أعني أن الشخصية التي يسميها دوستويفسكي "المفتش الكنسي الكبير" تتوفر على اختيار واسع للبذْلات. بالمقابل، فإن التحذير نجد صياغته مثلا في هذه السطور التي كتبها عالم نفس يستشهد به بالمناسبة ثيودور روزاك، والذي يقول بأن اكتمال الشخصية أو الصحة العقلية الحقة "تعني بطريقة أو بأخرى تحلُّل الأنا العادية، أي هذه الأنا المزيفة التي كِفت أيما تكييف مع واقعنا الاجتماعي المستلب؛ وانبثاق أنماط أصلية "داخلية" توسطية للقوة الإلهية، وانتهاء هذا الموت إلى الانبعاث والخلق الجديد لوظيفة جديدة للأنا، حيث لا تخون الذات الإنسانية الإلهي وإنما تعبده وتخدمه" [26].
لنزن جيدا كل كلمة من هذه الأسطر العميقة. إن لها مدى تعليمي روحي كبير، بحيث تدعونا أولا إلى موت أنا مبتورة من قبل واقع اجتماعي مستلب، وتقودنا ثانيا إلى الولادة الجديدة لأنا منبعثة، تحمل مسؤولية وظيفة إلهية تملك هي قوة تحملها وتأديتها. انطلاقا من ذلك لنا أن نطرح السؤال المركزي التالي: "ما هو الشخص"؟ إنه السؤال الذي يطرح ضمنيا هذه الأيام في العديد من الأبحاث التي تبدو مشوشة لأنها يائسة، لكنها في الحقيقة منذورة للإحساس بأن السر الحاسم، أي القيمة الخفية للوعي الشخصي، لا توجد مثلا في وعي طبقي معين، وإنما في وعي الوعي الذي يكشف عن سره.
كان لي حظ المشاركة في شهر مايو الماضي في ندوة انعقدت في معهد الفلسفة بجامعة تور الفرنسية، وكان موضوعها: " الإنسان والملاك". إن صياغة موضوع كهذا في أيامنا هذه يمكن أن يبدو كما لو كان تحديا للبداهات المتواضع عليها. ولأن موضوعا كهذا عبارة عن تحدٍّ، فإنه يتضمن الطريق السري التي يمكن أن نجد فيه الجواب على السؤال المطروح: "ما هي الشخصية"؟ فعلى هذا الطريق سوف أستدعي الفلاسفة الإيرانيين الذين أدين لهم بالكثير منذ زمن، كي أقول كيف يبدو لي ذلك الجواب، ومن ثم كيف يبدو لي بالعلاقة مع هذه الندوة رسالة الفلسفة الإيرانية.
هذا الجواب، أعثر عليه، بالعودة إلى مفهوم أساس في أنثربولوجيا إيران الزارادشتية، أي مفهوم "الفرافارتي" (فُروهار بالفارسية). وتعني الكلمة في الزارادشتية النمط الأصل archétype السماوي لكل كائن نوراني، أي أناه الأعلى، وملاكه الحارس، باعتبار أن هذا الأخير جزء لا يتجزأ من وجوده ذاته لأنه مقابله السماوي. هذا المفهوم أساسي جدا في الشخصانية الزارادشتية، باعتباره قانون الوجود نفسه، بحيث إن أهورامزدا نفسه وملائكته الكبار وكل الآلهة الملاكية لها أيضا الفرافارتي الخاص بها[27]. هذه الفرافارتي هي التي تمنح للشخص بعده الحق. فالشخص الإنساني ليس شخصا إلا بهذا البعد السماوي النمطي الأصلي والملاكي، الذي هو القطب السماوي الذي من دونه يفقد القطب الأرضي بعده الإنساني وقطبيته بشكل كامل، بحيث يتوه هائما على وجهه. والمأساة تكمن إذن في فقدان هذا القطب السماوي، لأن مصير الشخص بتمامه يندمج في هذه المأساة.
وهنا بالضبط يمكننا أن نلامس مأساة الغرب اليوم، أي غربا يشمل مناطق شاسعة من الشرق، هنالك حيث يتموْقع موضوع ندوتنا.
علينا إذن أن نقرع أجراس التجمع حول هذا المفهوم العتيق لإيران الزارادشتية، لأننا نجد مرادفات له بمختلف التسميات في العديد من مناطق العالم سواء في العالم الإبراهيمي أو العالم الإغريقي. ولن أستطيع هنا أن أقوم سوى بتقديم إشارات مقتضبة عن ذلك[28]. فنحن نجد مرادفه الوظيفي في المفهوم الهرمسي للطباع التام، وهو مفهوم جوهري في فلسفة السهروردي ويشرحه بشكل رائع أبو البركات البغدادي. إنه أيضا مفهوم "شيخ الغيب" وهو المرشد السري لدى نجم الدين كبرى والسمناني وعزيز النسفي. إنه الشكل النوراني الذي يصاحب مريد الإسماعيلية خلال تعلمه الروحاني باعتباره إشراقة مانوية دقيقة. (انظر الروح القدس أو ملاك النبي ماني). ويمكن لهذه الفكرة أن يمثل لها بصورة الجسم اللطيف، والجسم الأثيري الروحاني، أو الشكل (تسيليم) في القبالة اليهودية التي تستعيد هذا المجموع. إنه الأنا السماوي الذي يدخل في صيغة "رؤية المرء لنفسه"، و"معرفة المرء لنفسه"؛ لأن هذه الصيغة هي الشكل البدئي للإنسان، والصورة النمطية الأصلية التي خلق الإنسان تبعا لها، فهي المرآة التي يتبدى فيها الإله، أو بالأحرى "ملَك الوجه"[29] للشهوديين. وقد قال تعالى لموسى "لن تراني" سورة الأعراف، الآية 143)، ومع ذلك لدينا شهادة نبي الإسلام في ذلك: "رأيت ربي في صورة شاب أمرد "[30] .
إن الأنا التامة، والشخص التام هما تلك "الثنائية الأصلية" dualitude. والتصور المونادولوجي (الجوهري الفردي) لكل جوهر فرد إنساني باعتباره تكثيفا للعالم يفترض هذه البؤرة المزدوجة "للملاك والإنسان"، ذلك أنها لكي تكون تامة يلزمها أن تلائم بين القطب والعالم السماوي، وبين القطب والعالم الأرضي. وهذا هو ما ينعته الفلاسفة الإيرانيون السينويون بالعالم العقلي، وهو الاصطلاح الذي ترجم للاتينية ب: saeculum intelligible : فالفردية الروحانية في قمتها هي "عالم روحاني" بكامله، وأيون، والاصطلاح السينوي يبعث بشكل دال التسمية العرفانية للأيونات باعتبارها وحدات روحانية للعرفان[31]. وهكذا إذن يسعى الأنا التام تدريجيا إلى أن يكون موجودا ens تاما في صيغة محددة، قالبا بذلك المسعى الذي يحاول مماهاته بالمطلق اللامحدد. إن هذا التذكير البسيط لموقف جاكوب بوهم الذي أشرنا إليه سابقا يكفي ليحدد لنا أين يتضح خطر العدمية.
يتضح هذا الخطر هناك بالضبط حيثما يغيب البعد الروحاني المتعالي والملاكي للشخص؛ باختصار، حيثما يغيب الفرافارتي الذي يمنحه، من غير وسيط مُؤسَّسي، بعدَه المجاوز لهذا العالم. وحين يغيب هذا البعد الذي هو مبدأ التشخُّص الأسمى، حينها يبدأ غزو العدمية. وليس لنا هنا أن نحكي تاريخه. فهو تاريخ بدأ منذ زمن بعيد، إذ هو تاريخ "الإنسان من غير فرافارتي. ومن دون شك، فلأن الزارادشتيين هم الذين كانت لهم قوة النظر مباشرة في وجه أهريمان، فإن مبدأ العدمية التامة والنشيطة هو ذلك الخطر نفسه الذي أدركوه وهم يتفكرون في الخلق الأهورمازدي للنور بسلبية أهريمان. فقد استدعى أهورمزدا لمعونته كل الفرافارتي؛ ومن غير معونتهم لم يكن له أن يدافع عن أسوار السماء الحصينة. إنه ملمح دال على فكر إيران الزارادشتية القديمة؛ فإله النور يحتاج لمساعدة أهله كلهم ما دام الخطر الداهم رهيبا. من ثم يقام ميثاق فتوة تضامني بين الرب الحكمة (مزدا) وكامل فتوته السماوية. فهم أطراف مشتركة في المعركة نفسها. وفكرة ميثاق الفتوة الروحانية هذا نجده في التعاضد الصوفي بين الرب والمربوب لدى ابن عربي، وحيثما توجد فكرة الفتوة الروحانية (بالفارسية: جاوانماردي).
لكن، ما الذي يحدث حين يغيب البعد السماوي للشخص، الذي يشكل وجود الشخص نفسه وتشخُّصه الأسمى؟
ما يتم هو تجميد الميثاق وتوقيف الالتزام المتبادل. وحينها فإن كل علاقة بين الإله والإنسان تغدو مشوهة. فهما أكثر تضامنا، ويستجيب الواحد منهما للآخر في المعركة نفسها. وهما يقفان وجها لوجه ربا وعبدا. وعلى أحدهما عليه أن يختفي. فالبروميثوسية سرقت النار المقدسة بالقوة، أما في المزدكية فبنو البشر هم حراس هذه النار المقدسة التي أوكلتها لهم. ولكي تصل البروميثوسية إلى تحقيق مأربها فهي ستتخذ أعْتى أشكال التفتيش الكنسي. إن تفكير المرء بذاته، والقيام بأعمال خاصة وشخصية تبعا للمبادرة الخاصة، والجرأة الحرة على المغامرة البروميثوسية، هي مهمة يرغب العديد من الناس في تفاديها. لهذا فإن المفتش الكنسي الأكبر Grand Inquisiteur يقوم بها عوضهم، بشرط أن يتخلوا عن أن يكونوا أنفسهم. ولهذا الغرض يرفض للفردية الإنسانية أن تحمل شيئا فطريا في ذاتها. فكل ما هي عليه اكتسبته وتلقته من بيئتها، والتربية القوية التي تتحمل مسؤوليتها[32]. كيف يكون المرء هو نفسه في الوقت الذي يُعدم فيه هذا الشرط الشخصي؟[33]. وهكذا فإن العدمية التامة تغوص في عالم فقد قداسته. فكيف للإنسان، في غياب شخصه الخاص الذي صار معدوما، أن يلاقي إلها مشخِّصا له؟ فلم يبق له سوى أن يبتهل لهذا الإله أن يكون موجودا.
كل أشكال اللادرية الملحة والضرورة اللاأدرية سوف تسم حينها انتصار العدمية: إنه واقع الوجود المحَدَّد في العالم الوحيد التجريبي، وفي حقيقة المعرفة المحصورة في الإدراكات المحسوسة والقوانين المجردة للفهم، باختصار في كل ما يتحكم في التصور العالم المسمى علميا وموضوعيا، ومن ثم في واقع الحدث المحصور في وقائع التاريخ التجريبي، بحيث ليس ثمة من مهرب من الاختيار الصعب بين "الأسطورة أو التاريخ"، لأن الإنسان لم يعد قادرا على الإحساس بأن ثمة "وقائع في السماء". قلنا منذ قليل بأن كل الإيديولوجيات السائدة هي عَلْمنات لأنساق لاهوتية هلَكت في انتصارها. إننا نعني أن التجسيد الإلهي تحول إلى تجسيد اجتماعي أو سوسيو سياسي. من ثمَّ أيضا فإن فكرة هذا التجسيد نفسه هو الذي يبرز خطورة نتائجها. فقد كان من المستحيل على العنصر الإنساني أن يحطم الإلهي، أو أن يبخّر الإلهي الإنساني. هذه الحالة الأخيرة كانت ناجمة عن النزعة الفيزيائية الأحادية monophysisme ويمكننا القول بأن ظاهرة الجمْعنة socialisation والكليانية التي يفضي إليها ليست سوى فيزيائية أحادية بالعد العكسي[34].
إنها نتائج عديدة لانهيار الشخصانية أو غيابها، هذه الشخصانية التي تم التنديد بها باعتبارها سببا في العدمية. والعكس هو ما نراه نحن. لذا يتوجب علينا إنهاض وتنشيط مبدأ واقع مضاد للواقع المعدم، يكون بكلمة واحدة مضادا للعدمية.
5. من أجل مفهوم للواقع مضاد للعدمية
إننا نجد هذا المبدأ بالضبط انطلاقا من الحوار الذي يفترضه ويقيمه في الآن نفسه البعد المزدوج للشخص التام، بين قطبه السماوي وقطبه الأرضي، وبمصطلحات إيرانية، بين الفرافارتي (الملاك)، والنفس. وبما أن انكسار هذه القطبية المزدوجة هو الذي يمكّن من عودة هجمة العدمية التامة للعدم، علينا أن نقيم أو نستعيد مبدأ واقع يصبح معه هذا القلب مستحيلا، وهو قلب مصيري سواء عندما يتم الخلط بين الإله الشخصي والمطلق اللامتحدد، أو حين يتم إضفاء الطابع الدنيوي العلماني عليه في مستوى التجسيد الاجتماعي.
إن "لغز الألغاز (أو كما تسميه الإسماعيلية "غيب الغيب" هو ظهور بالذات. إنه ينحو جوهريا إلى التجلي بذاته كما رأينا ذلك مع بوهم وابن عربي. وقدرة هذا الظهور أو التكشُّف تفترض الطرف الثاني، أي ذلك الذي يتكشّف له ويتجلى. ثمة إذن تلازم بين هذا التوالد الذاتي الذي يقود المطلق الإلهي إلى الظهور باعتباره إلها شخصيا، وبين ذلك التاريخ الإلهي الداخلي وتاريخ النفس التي تتجرد عن الضغوط والإكراهات الخارجية حتى ينبثق في الأخير "فكرتها" الأبدية التي هي سرّ شخصها الأحدي. ثمة تلازم بين الولادة الإلهية وولادة النفس التي من أجلها تتم تلك الولادة الإلهية. وهذا التلازم يقيم بين الطرفين ترابطا لا تنفصم عراه، وتعاضدا متبادلا، بحيث إن الواحد منهما لا يمكنه أن يستمر في الوجود من غير الآخر. وإذا ما اندثر أحد الطرفين فالآخر يغدو ضحية للعدم. ثمة تلازم بين "موت الإله" وموت الإنسان. وقد تحدثنا عن ميثاق تضامن له طابع الفتوة، وفكرته الأولى توجد في الفتوة السماوية لإيران الزارادشتية القديمة. لكن، أي نظام للحقيقة وأي نظام للواقع، أيْ أيُّ شكل للمعرفة يفترضها إدراك هذا التقاطب المزدوج، وفي أي منطقة من العالم تحدث ويوجد مكانه؟
إن المقترح الذي تعلن عنه اللاهوت التنزيهي الذي لم يمر باختبار اللاهوت التنزيهي، ومقترح السوسيولوجيا التي تأخذ مكان اللاهوت، بما أن الفلسفة تظل خادمة السوسيولوجيا بعد أن كانت خادمة لللاهوت،، هذه المقترحات لها شكل نسميه عقائد، اي مقترحات يتم البرهنة عليها وإقامتها مرة إلى الأبد، وتفرض نفسها لذلك وبشكل موحد على كل واحد. فالوثوقيون العقديون (الدوغمائيون) لا يتركون مكانا لحوار حقيقي، وإنما للمواجهة.
بالمقابل، فإن الحقائق التي تدرك باعتبارها مكونة لتلك العلاقة الفريدة بين الإله المتجلي كشخص (في الكتاب المقدس: ملاك الوجه) والشخص الذي يرفع إلى مستوى شخص بالانكشاف له، هذه العلاقة هي أساسا علاقة وجودية لا عقدية. فلا يمكنها أن تعبر عن نفسها باعتبارها عقيدة dogma وإنما انكشافا dkêma (والكلمتان مشتقتان من الفعل الإغريقي نفسه: dokéo، الذي يعني الظهور والانكشاف، وأيضا الإيمان والاعتقاد والإذعان). فالانكشاف يسم وسما العلاقة التلازمية بين شكل ما يتجلى ويظهر ومن يتم الظهور والتجلي له. هذا التلازم هو ما تعنيه الكلمة الإغريقية dokêsis. وللأسف فإن ما نسميه أرْيوسية docétisme هو في الحقيقة النقد اللاهوتي أو بالأحرى الحكمي الإلهي، للمعرفة الدينية. إنه نقد يتساءل عن ماهية وعلل هذه العيانية visibilité. وهي طبيعة وعلل تريد للحدث الذي وقع والمتعلق بالتلازم الذي تحدثنا عنه، ألا يقع لا في عالم الإدراك المحسوس ولا في عالم الفهم المجرد. يلزمنا إذن عالم آخر يتكفل وجوديا بهذه العلاقة التي ليست علاقة منطقية ولا مفهومية ولا عقَدية، وإنما علاقة تجلٍّ تندرج في واقعية شهودية حيث المظهر يغدو ظهورا.
هذا العالم الوسط، هو ذلك العالم الذي اهتم به منذ قرون العديد من الفلاسفة الإيرانيين، منذ السهروردي (توفي عام 1191م) حتى الملا صدرا الشيرازي (ت. عام 1640م) وإلى يومنا هذا (سيد جلال الدين الأشتياني). إنه العالم الوسيط بين عالم العقل (عالم العقول الخالصة) وعالم لإدراك الحسي، والذي يسمى عالم المثال، أي عالم الصورة، لا الصورة المحسوسة وإنما الصورة الميتافيزيقية. لهذا فأنا في كتبي أستعمل بالفرنسية عبارةmonde imaginal (عالم تصوري، أي عالم المثال) ترجمةً للاتينية mundis imaginalis قصد تمييزه عن المتخيل imaginaire الذي يتطابق مع اللاواقعي، حتى لا نسقط في هوة اللأدرية الذي يحمينا منها عالم المثال. هذا العالم الذي "تتروحن فيه الأجساد وتتجسدن فيه الأرواح" هو جوهريا عالم الأجسام اللطيفة، أي العالم بطريقة روحانية أثيرية، متجردا من قوانين المادة الفاسدة في عالمنا هذا، لكنه غير متجرد من الامتداد (أي امتداد الأجسام الرياضية الصلبة)، ويمتلك الثراء الكيفي للعالم المحسوس، لكن في شكله غير الفاسد. هذا العالم البيني الوسط هو محل الوقائع الشهودية، ورؤى الأنبياء والمتصوفة، والوقائع الأخروية. فمن غير هذا العالم الوسط، لن يكون ثمة حدوث لهذه الوقائع. من ثم، فعالم المثال هذا هو الطريقة التي من خلالها يمكننا التحرر من الحرفية، التي غالبا ما كادت الديانات السماوية أن تسقط فيها. إنه المستوى الأنطولوجي الذي يغدو فيه المعنى الروحاني للوحي معنى حرفيا، لأننا في هذا المستوى نبلغ إدراكا تقديسيا أو وعيا تقديسيا للكائنات والأشياء، أي لوظيفتها الكامنة في التجلي، لأنها تحمينا من الخلط بين الأيقونة، أي الصورة ميتافيزيقية، والصنم. ففي غياب هذا العالم الوسط نظل منذورين للانحباس في التاريخ الأحادي الجانب للأحداث التجريبية. وتغدو "الأحداث الواقعة في السماء" (الولادة الإلهية وولادة النفس مثلا) أمرا لا يعنينا لأننا لا نراها.
وإذن، فإنني أرى العرض الأكثر وضوحا للعدمية التي نحن ضحيتها اليوم، في كل مناحي الفكر والوعي التي استسلمت للمنزع الثنائي الديكارتي (الذي يعارض بين عالم الفكر وعالم الامتداد)، ولا يمكنها أن تتخلص منه. إنه إطباق يجعل من الصعب بل من المستحيل تصور جسد روحاني ومادة روحانية، بحيث إن المحاولة المحتشمة التي قام بها في الماضي وليام جيمس، وبطريقة أقوى فيما بعد، برغسون، قد خلفت في وقتها أثرا لا يستهان به[35]. وفي أحسن الأحوال يتحدث عنه الأنثربولوجيون كما لو تعلق الأمر بتصور "بدائي"، فيما أن الأمر لا يتعلق بتصور "بدائي" بالمعنى الإثنولوجي وإنما هو أنطولوجيا أولى. أعتقد أن الأمور تغيرت منذئذ. فعدا الأبحاث التي تكاثرت في هذه العتبة الحدية، ضاعفت الفلسفة من جانبها المحاولات للخلاص من الاختيار الصعب للديكارتية.
لقد حان الوقت لكي تتضافر الجهود المتآلفة لأناس من قبيل جاكوب بوهم والملا صدرا الشيرازي، بإنشاء ميتافيزيقا للخيال الفعال باعتباره عصوا لهذا العالم الوسيط للأجسام اللطيفة والمادة الروحانية، أي البعد الرابع. فتواتر أفعال الوجود، كما دعت له ميتافيزيقا صدرا الشيرازي، ترفع من وضعية الجسم إلى مستوى الجسم الروحاني، بل إلى جسم إلهي. وعضو هذا التحول وهذا التناسل للجسد الروحاني هو لدى جاكوب بوهم كما لدى الملا صدرا قوة الخيال، التي هي الملكة السحرية بامتياز، لأنها النفس ذاتها "يحركها" "طباعها التام"، أي قطبها السماوي. وإذن، إذا كان أحد الجوانب الهدامة للعدمية يتبدى لنا في "غياب الطابع السحري" عن عالم استحال إلى إيجابية نفعية من غير غائية وراء ذلك، فإننا ندرك إلى أي حد سيرتفع السور الواقي من العدمية.
لطالما تحدثت في كتبي عن ميتافيزيقا عالم المثال والعالم الوسط، التي تبدو لي عبارة عن عنصر أساس من الرسالة الحالية للفلسفة الإيرانية، بحيث لا يمكن أن أتمادى في ذلك هنا[36]، إذ علي أن أقوم بمحاضرة أخرى. لا أريد إذن أن أكرر عرضي، وإنما فقط أن أختمه بهذا لتذكير.
يشكك موضوع ندوتنا في أثر الغرب في إمكانية حوار مع الحضارات المسماة تقليدية. وقد حاولت في تحليلي أن أستنبط الظاهرة الأولى التي تمكننا من نقل التهمة التي تلصق بالغرب محملا إياه مسؤولية "مادية" تعارضها "روحانية" الشرق. واعتبرت أن هذه التهمة لا تتصل بما هو عليه الغرب في ماهيته، وإنما بخيانة لما هي عليه ماهيته. وفي هذه اللحظة، فإن التعارض بين الشرق والغرب، بالمعنى الجغرافي أو العرقي لهذه العبارات، غدا اليوم أمرا متجاوزا إلى حد بعيد؛ ذلك أن ما نسميه "روحانية"، وما نسميه "مادية" لست حكرا على أحدهما دون الآخر. وإلا كيف يكون ممكنا الظاهرة التي نسميها في أيامنا هذه "تغريب" الشرق. وفي النهاية، من المسؤول عن هذا "التغريب"، هل هو الغرب؟ أم هو الشرق نفسه؟ بالإجمال، ها نحن الشرقيون والغربيون نواجه معا المشكلات نفسها. من ثم، يلزم أن يأخذ اصطلاح الغرب والشرق معنى آخر تماما غير المعنى الجغرافي والسياسي أو العرقي، ذلك أن مؤلفا هجّاءً إذا كان قد كتب اليوم بأن "روما ليست في روما"، ربما كان الشرق أيضا ليس في الشرق. إننا نعني هنا "الشرق" بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، أي الشرق كما أدركه الفلاسفة الإيرانيون التابعون لمدرسة ابن سينا والسهرودي. فـ"شرقهم" هو العالم القدسي، ذلك القطب السماوي الذي تتعلق به كلية الشخص الإنساني. والذين يفقدون هذا القطب، هم صعاليك غرب متعارضون مع "الشرق" الميتافيزيقي، مهما كان موقعهم الجغرافي شرقيا أو غربيا.
إن مسألة إمكانية الحوار تندرج في هذا الإطار: هل نرغب في السير معا لنكتشف مجددا هذا القطب السماوي الذي يمنح الشخص الإنساني بُعده التام؟ فالحوار بالمعنى الحق لا يكون ممكنا إلا بين أشخاص لهم الطموح نفسه للبعد الروحاني نفسه (وهو أمر مختلف تمام الاختلاف عن الانتماء إلى الجيل نفسه مثلا). هذا البعد التام للشخص الإنساني، يوضحه لنا درس من قبيل درس جاكوب بوهم. تحدثنا منذ قليل عن "الطموح نفسه"، ذلك أن هذا البعد التام للشخص الإنساني لم يوجد بعد. ولا يمكنه أن يتم إلا في نهاية سيرورة لا تقوده إلى تماهٍ وهمي مع مطلق مجاوز للشخص، وإنما ينهي فيها السيرورة التي بمقتضاها يتوالد المطلق المحجوب بذاته باعتباره شخصا إلهيا. فالمطلق لا وجه له، وحده الشخص له وجه يمكّنه من المواجهة، وفي هذه المواجهة ينعقد ميثاق التضامن الذي له طابع الفتوة.
إنه لمن الضلال أن نزج بالمطلق في تقلبات المصير الإنساني. بالمقابل، فإن الإله الشخصي وعبده يبدوان لنا طرفين شريكين في المصير نفسه. وإذن فإن هذا الإله الشخصي، الذي لا يمكن أن يموت إلا بخيانة شريكه، يمنح معنى للمغامرة الإنسانية. وتلك هي الحقيقة العميقة لقول مأثور في تجمع الروحانية المقدام المعروف في الغرب باسم مورمونس Mormons: "ما أنت عليه كان عليه الإله. وما هو عليه الإله، ستكون عليه أنت". من ثم لن نكون فقط أطرافا في حوار، سنكون الحوار نفسه.
هوامش
1. مقال جورج فالان (أستاذ بجامعة نانسي) في "المجلة الفلسفية"، باريس، يوليوز-شتنبر 1975، ص. 275-288. انظر أيضا مقاله المنشور أخيرا: لماذا اللاثنائية الآسيوية (عناصر من أجل نظرية فلسفية مقارنة)، نفسه، ع. 2، 1978، ص. 157-175.
2. جان ماري دومناك، عودة المأساوي، باريس، 1967، ص. 292 و275.
3. نفسه، 276. التشديد من لدن مؤلف المقال.
4. نفسه، ص. 278.
5. وبخاصة سيد أحمد العلوي الأصفهاني وحسين التنكبوني. انظر الأشتياني وكوربان، أنطولوجيا الفلاسفة الإيرانيين منذ القرن 17 إلى يومنا هذا، مج. 2، طهران،-باريس، 1975، ص, من 7 إلى 31 من القسم الفرنسي. وانظر أيضا دراستنا عن "مفارقة التوحيد" ضمن مجلة إيرانوس جاهربوش 45، 1976.
6. ج. فالن، مرجع مذكور، 1975، ص. 280.
7. نفسه.
8. أسطورة بروميثوس يحس بها المؤمن الذي يعيش في أعماق نفسه التصور الإيراني للنور، كما لو كانت بلبلة هوجاء لواقع الأشياء. انظر دراستنا: "واقعية الألوان ورمزيتها في نظرية نشوء الكون الإسماعيلية"، ضمن مجلة إيرانوس جاهربوش 46، 1977.
9. انظر ج. فالان، مرجع مذكور، 1975، ص. 280، هامش 3.
10. نفسه، ص. 282.
11. نفسه، ص. 284.
12. نفسه، ص. 284.
13. نفسه، ص. 285.
14. نفسه، ص. 285.
15. انظر بالأخص رسالة أبي يعقوب السجستاني (بالفارسية) كشف المحجوب، نص إسماعيلي من القرن الرابع للهجرة، حققه هنري كوربان، طهران-باريس، 1949. ويتابع فيه المؤلف جدلية صارمة للسلبية المزدوجة: اللاوجود واللاللوجود. فالله لا يوجد في الزمن، ولا لا يوجد في الزمن؛ وهو لا يوجد في المكان، ولا لا يوجد في المكان، الخ. انظر أيضا للمؤلف نفسه، كتاب الينابيع، النص العربي محقق ومترجم في: الثلاثية الإسماعيلية، طهران –باريس، 1961. انظر ثبت المصطلحات: توحيد.
16. انظر هنري كوربان، عن الإسلام في إيران: مظاهره الروحانية والفلسفية، باريس، غاليمار، 1971-1972، مج. 4، ثبت المصطلحات العام، كلمة: توحيد. وعن سعيد القمي، والمدرسة الشيخية، انظر الفصول المخصصة لهما في المجلد نفسه. وعن رجب علي التبريزي، انظر أيضا: أنطولوجيا الفلاسفة الإيرانيين (فوق، الهامش 5)، مج. 1، ص. 98-116 من الجزء الفرنسي، وكذلك كتابنا: الفلسفة الإيرانية والفلسفة المقارنة، طهران، الأكاديمية الإيرانية للفلسفة،1977، باريس، بوشي/شاستيل.
17. انظر ألكساندر كويري، فلسفة جاكوب بوهم، باريس، 1929، وهو عرض رائع لا يزال يحافظ على قيمته وراهنيته. ونحن نتّبعه عن كثب هنا. انظر الصفحات 303-305 وما يليها.
18. انظر دراستنا عن: مفارقة التوحيد، مثبتة فوق في الهامش 5، والذي نبلوره بشكل موسع في دراستنا: "ضرورة علم الملكوت" (ندوة معهد الفلسفة بتور، ماي 1977)، ضمن: دفاتر الهرمسية.
19. انظر أ. كويري، مرجع مذكور، ص. 307.
20. نفسه، ص. 315.
21. وقد أشار كويري إلى هذا التباين في تحليل مختصر، نفسه، ص. 316، هامش 2.
22. حسب الترجمة الرائعة لكويري.
23. نفسه، ص. 319.
24. ندين لكويري، نفسه، ص. 319، التدخل الوجيه للصيغ اللاتينية لف. فون بادر، التي تستعيد المسألة كلها.
25. ثيودور روزاط، نحو ثقافة مضادة، ، ترجمة كلود إلسين، باريس، 1970، ص. 68.
26. انظر دراستينا اللتين نحيل إليهما في الهامش 18.
27. انظر ثبت المصطلحات في كتبنا: ابن سينا والقصة لشهودية، الأرض السماوية وجسد الانبعاث، عن الإسلام في إيران...، الملاك القرمزي، إلخ. انظر أيضا جيرشوم سكوليم، عن الصورة الصوفية للإله، فرانكفورت، 1973، ص. 249، 271.
28. عن "ملك الوجه" انظر القسم الأخير من دراستنا: "ضرورة علم الملكوت" (ما سبق، الهامش 18).
29. انظر كتابنا عن الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ط. 2، فلاماريون، 1977، الفصل الأخير (مع النصوص مترجمةً في الهوامش)، عن صورة الحق.
30. انظر كتابنا: الفلسفة الإيرانية والفلسفة المقارنة، (ما سبق، هامش 16). ثبت المصطلحات: عالم عقلي.
31. ألم يسر بهم لحال إلى القول إن الكروموزومات بدعة فاشية!
32. انظر أكساندر زينزفييف، الأعالي الفاغرة، لوزان، منشورات عصر الإنسان، 1977.
33. انظر دراستنا: ضرورة علم الملكوت (ما سبق، هامش 18)، الفصل عن المسيح الملاك بكامله.
34. وهو ما يذكّر به كويري، مرجع مذكور، ص. 113، هامش 3.
35. انظر: عن الإسلام في إيران...، مج. 4؛ والملك القرمزي، مجموع 15 رسالة وقصص صوفية للسهروردي، ترجمها عن الفرسية وشرحها هنري كوربان، باريس، فايار، 1976، ثبت المصطلحات، وكذلك ثبت المصطلحات بكتابنا عن ابن عربي (ما سبق، هامش 30).